قد يخالفني الكثير من من يعرفني عندما يقرأ هذه المذكرات، ويتفاجأ مني الأكثر، ويخاف علي القليل، ويكَذّبني البعض. لكنها وقائع عاشها قلبي، وأكدّها عقلي. وأعتقد أنه من الخذلان بحق الله أولا، ثم بحق الغير أن أكتم هذه التجربة في صدري، وآثرت أن أدونها على وجه السرعة.
حتى أكون في منتهى الصراحة، كان إيماني بالله وبالإسلام قائم على أساسين:
لا تعتقد في وصفي بكلمة “التيه” هو أني كنت في حالة أخلاقية سيئة، أو كنت أتفنن بتأذية البشر، أو ظلمهم و أكل حقوقهم. بل كنت أعاني من ضعف إيماني، سببه الأول كان التقاعس والكسل في أداء حق الله. كان هذا الضعف والتوهان يزداد بمرور الأيام، وازدياد مثل هذا التقاعس، مما تسبّب في حالة اكتئاب داخلية متزايدة. وأحمد الله أن هذا الضعف استطعت تداركه - بتوفيق الله كما ستقرأ - ولم يستفحل ليؤثر في الجانب الأخلاقي، الذي باعتقادي هو من صميم العقيدة. مثل هذه الحالة من الضعف أعتقد أنّها متفشيّة، خصوصا بين أوساط الشباب، في مجتمعنا الإسلامي المعاصر. والتي ستؤثر على الشخص، شاء أم أبى، في بداية حياته، أواسطها، أو حتى في خاتمتها - نسأل الله السلامة -.
وحتى ألتزم بمبدأ الصراحة الذي ذكرته في البداية، لا أنكر تأثير تساوُرْ الشكوك في النفس، التي تجيء وتذهب (والذي باعتقادي لا مناص منها، خصوصا في عصرنا هذا تحديدا، مع مثل هذا التوسّع المعرفي، والذي أعتقد أنه ينبغي التعاطي معه بحدود التعاليم الإسلامية، بالاضافة إلى التوجيه النبوي وهو الاستعاذة منها وتجنب الخوض فيها، كما تعاطى معه فاضل سليمان بطريقة ذكية (في هذا التحليل). هذه الشكوك والتساؤلات، حسب ما فهمت هي من صميم الإيمان، كما في الأثر النبوّي الشريف: “جاء ناس من أصحاب النبي ﷺ فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان.”- رواه مسلم. من وجهة نظر دينية: حسب تحليل علماء الدين ممن قرأت لهم، هذه الشكوك لا تعدوا أن تكون أما أنها أحاديث للنفس، أو وساوس من القرين الشيطاني: "ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين” - الزخرف آية ٣٦.
أحد الأسباب لهذا الضعف، هو ابتعادي عن المتدينيين والاطلاع على الثقافة الدينية عموما. الصورة النمطية (stereotype) كانت في عقلي دائما للشخص المتدين في مجتمعي (نجد): هو شخص ممل، زاهد، منفّر للحياة ولا رغبة له فيها، وجاهل (منتهى الجهل) حينما يصل الأمر للعلوم غير الدينية. هذا السبب الذي جعلني، منذ مرحلة الشباب، أتجنب الاحتكاك بالمتدين والمتدينيين، والتعاطي معهم عموما.
ليسمح لي القاريء (بقليل من الفلسفة): كل ما قرأته في الأعلى أستطيع أن أصفه بمتلازمة (الدين السعودي)، عوارضها تتلخص بالتالي:
لا أقصد بسرد هذه الأفكار أن سبب تيهي هي حالة المجتمع بالأساس، لكنها تزيد التائه تيهاًََ.
عموما كنت رافض تماما أن (أسبح) مع التيار، وأن أجعل سمعتي الدينية ناصعة البياض ومخالفة لسريرتي (نفاق بتعبير مختصر). لذلك كان هذه النوع من الضعف الإيماني ظاهر عليّ وملحوظ، على الأقل من مجتمعي القريب مني.
رغبة فيني في زيادة الإيمان، اخترت أن اقرأ في الفلسفة الدينية لأول مرة. كان مقصدي هو أنه لعلي يزيد إيماني بمدخل عقلي بدلا عن التلقين الذي أعتدت عليه من الطفولة.
ولحسن الحظ والمصادفة جميلة، قررت أن أبدأ بقراءة كتاب يلخص فكر علي عزت بيجوفتش بعنوان “نبت الأرض وابن السماء"، العنوان أثارني جدا لهذا اخترته.
عقلية الرجل أعجبتني، بعدها قرّرت - برغم علمي أن القراءة الفلسفية قد تكون ثقيلة لغير المتبحّر - قراءة كتابه بترجمة محمد عدس:"الإسلام بين الشرق والغرب"
انتهيت من القراءة بتساؤلات أكثر من الذي كنت أحملها أساسا، خصوصا في العلاقة ما بين الدين، الأخلاق، والفنون: هل هناك أخلاق بلا دين؟ ما العلاقة بين الفن والدين؟ هل التعبّد في أساسه ضرب من الفنون (قراءة القرآن بالترتيل والتجويد، وكما في الأثر الشريف: “أن النبي ﷺ لما سمع أبا موسى الأشعري يقرأ القرآن ويتغنى به قال: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود” - رواه البخاري ومسلم). هل من الممكن وجود فن بلا دين؟ … إلخ.
تركْت هذه الأسئلة معلقة في رأسي لعل الأيام تزيدني نضجا، وأرى الإجابة من خلال تجربتي الإنسانية.
تأثرت تأثرا كبيرا، بأثر رجعي، عندما صليت في جامع السلطان أحمد بإسطنبول في تركيا. (استطعمت) إسلام مختلف تماما عما نشأت عليه، الصلاة نفسها، وهي هي، لكنها (بطعم) مختلف. الآذان، القراءة العثمانية، الصلاة في بناء مَهيب وتأريخي عظيم لم يغيرّه الزمن .. إلخ. أكثر ما أثّر فيني هو طريقة المصلين في متابعة الإمام في التسليم للفراغ من الصلاة بدلا من انتظاره حتى يسلّم (والموضوع مختلف حسب المذاهب الإسلامية) (لاحظ هذا الفيديو في الدقيقة ٦:١٥ قد لا يكون واضح لكن يعطيك فكرة عن ما أقصده). هذا الالتزام والتتابع الجماعي، أثر فيني، وأثار فضولي، بشكل أو بآخر.
كتب الله أن أحمل أمتعتي وأذهب إلى الولايات الأمريكية لإكمال دراستي. كنت، وما زلت، قاريء لكتابات باولو كويلهو، وهو كاتب يخاطب “الروح" من خلال تجربته الإنسانية الثرية. قضيت أوقات طويلة، خصوصا في بدايات هذه الرحلة، أقرأ في كتبه، وكنت أرى في بعض الأفكار التي يطرحها نبل و جمال لا تستطيع أمامه إلا إطلاق منتهى الاحترام لمثل هذه الروعة الأدبية.
تعرفت على شاب مكسيكي ملتزم دينيا، وإلتزامه الديني أضفى عليه طابع أخلاقي جميل، زرع في قلبي فضول كبير. ليعذرني القاريء على الصراحة، لكن لدي وجة نظر في العلاقة بين التدين واستباحة الرذيلة أحتاج أن أتوقف عندها كثيرا: لذلك تجرأت يوما وتحدثت معه عن العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى، أو العادة السرية، من وجهة نظره كمسيحي أو كإنسان في النهاية. أحمرت وجنتيه إحمرار شديد. تفاجأت بذلك تماما، اعتدت أن أتحدث عن مثل هذه الأمور مع القرناء بدون تحفظ. ذكر لي من وجهة نظره أن العلاقة بين الذكر والأنثى ينبغي أن تكون قائمة على التجاذب الروحي، والجنس هو بمثابة (الملح على الطعام) (التشبيه منّي ولم يذكره هو). لم أتفق معه تماما في قضية التجاذب الروحي، فالإنسان في النهاية عقل وروح وجسد. لكن هذا التأدّب العجيب في التعامل مع الجانب الجنسي احترمته كثيرا. بالإضافة إلى ذلك، تحدثت معه عن أمور في العلاقة بين الذكر والأنثى كثيرة مثل رفض تعدد الأزواج، علاقة الذكر بالأنثى ومفهوم “الصديقة girlfriend” في المسيحية.
لعلّي رأيت فيهم - أتكلم عن مثل هؤلاء النصارى المتدينين - جانب تعبّدي مختلف قليلا عما اعتدت عليه. فالتعبد عندهم هو البحث عن الحكمة بالأساس وليس لمجرد الخوف أو الرجاء. هذا النوع من التعبد لم أعهده من قبل، حيث أن التعبد الذي نشأت عليه هو إما خوفا من العذاب، أو رجاء في الثواب.
خلاصة التجربة هنا، هو أن بعض من الجانب الأخلاقي الذي رأيته فيهم أشعلا غيرتي الدينية، كنت أردد في نفسي دائما: أنا أحق منهم بمثل هذا المستوى الأخلاقي! فهو من صميم العقيدة. لماذا لم أصل، أو على الأقل، أجتهد لأصل إليه؟
ولا أعتقد يخفى على القاريء صفة الرسول ﷺ الشهيرة قبل نزول الوحي، ولا أنسى أثر للفاروق عمر -رضي الله عنه - ذو علاقة: “لا تنظروا إلى صيام أحد ولا إلى صلاته، ولكن انظروا إلى من إذا حدّث صدق، وإذا ائتمن أدّى، وإذا أشفى -أي همّ بالمعصية - ورع“.
كتب الله أيضا، أن أعيش تجربة جديدة، فوق تجربة الغربة، وهي تجربة السكن باستقلالية.
ومن ما أذكره أيضا أنني نقلت أغراضي للسكن، بسيارة - غمارة على التعبير النجدي - كنت أقودها في ليلة ماطرة، وكأنها إشارة خير من الله - جل جلاله - أن هذا السكن الاستقلالي سيوفر لي خلوة أعود بها إليه. ولا زلت أذكر أيضا تساقط المطر في يومي الأول في الجامعة التي أتيت للدراسة فيها، وكأنها إشارة أخرى، أحدثت فيني نفس التأثير السابق.
ليتصور القاريء معي هذا التسلسل وكيفية تأثيره على نفسية الشخص: ضعف إيماني، تلاه تجربة غربة، أضف عليها تجربة “العزلة”. كل تجربة، بشكل مستقل، كان لها تأثير نفسي (أثقل) من سابقتها.
كان وضعي في مجتمعي في الوطن هو أنه مثل هذا الضعف الإيماني قد “أكافحه” باختلاطي بالمجتمع الإسلامي. لكن عند الانتقال، وشيئا فشيئا، بعد أول تجربة لدي في الاحتكاك بشكل غير مؤقت، بمجتمع غير مسلم، أدركت فعلا قداسة وأهمية ما أحمله من إيمان في صدري. اتضح لي مدى جهلي في كيفية "تسيير" الحياة في مجتمع “لا ديني”، “لا أخلاقي”، أو "لا إسلامي" خصوصا. وكيف أن القانون هو المسيّر الأساسي والبشر بدونه، وبدون إيمان ورادع داخلي، يصلون لمرتبة “الحيوانات”. مرّت علي مواقف سلبية كثيرة جدا. رأيت تصرفات في قمة “الحمق” و”الطيش” و”الغفلة”و “العنصرية"، والمصيبة أنها حصلت من بشر على حافة الموت، والعجيب أنهم وصلوا لأرفع المستويات العلمية البشرية، لكن لم ينفعهم ذلك في كبت شرّهم الفطري الذي أحيانا يظهر بصبغة طفولية مخجلة.
أكثر ما أثر علي هو حال المجتمع اجتماعيا، والذي كان كأنه يعيش في مسرحية كبيرة (هذا جزء من الثقافة الأمريكية بالمناسبة)، ينتهي دور كل شخص فيها بمجرد ما يغلق الباب على سكنه، الذي يمارس فيه (إنسانيته) هناك بعيدا عن عيون الجماهير.
لا يخفى أيضا على الجميع، خصوصا من مجتمعي المحافظ السعودي، كيف أن النقلة إلى مجتمع حر تماما يسمح بالعلاقة بين الجنسين بكل حرية، للشاب السعودي هي نقلة اجتماعية يجب التوقف عندها. مررت بمواقف، وتلميحات من الجنس الآخر، البعض هدفهم مادي، ومنهم من أسرّ بالرغبة في علاقة عاطفية. ولعل الله حفظني، على رغم ضعف إيماني وإمكانية الانجراف في علاقات محرمة. حيث أني، ولله الحمد، لم أخذها على محمل الجد، وكنت أحمّل الموضوع على ظنون منّي خاطئة. ولعلي تأكدت بعدها أنها من دعوات الوالدة المستمرة وليس خير منّي بالأساس، حيث أني لم أدرك كثير من التلميحات إلا متأخرا، وبأثر رجعي.
أذكر أن حالة التيه والاكتئاب استفحلت ووصلت أشدها، خصوصا أني لم أرتح بالاحتكاك مع مجتمع الجامعة، للأسباب التي أستعرضتها، رغم أن الظروف كانت مهيئة، نوعا ما، لذلك. كان كل محاولة اجتماعية يعقبها نفور شخصي، لا أستطيع مقاومته.
عموما، مرت على أيام لا أنام فيها إلا بمعدل ساعتين في اليوم. كنت أعلم يقينا أن عندي مشكلة معينة، سمّها نفسية أو روحية إن شئت، ولم يدر في خلدي أن هذا الضعف الايماني يأكلني من الداخل. خصوصا مع ابتعادي عن الوطن ووجودي في مجتمع مختلف.
ولعل كل ذلك كان من رحمة الله وعنايته ...
في تلك الأيام الصعبة، أذكر أني كنت أستمع بشغف لحلقات سلمان العودة في برنامج الحياة كلمة. في أحد اللقاءات ذكر نقطة - كنت أتوقف عندها كثيرا لكن أتجاهلها بطريقة أو بأخرى - ، وهي نقطة أنك تتأمل حين تستمع أو تقرأ القرآن في الآية وكأنها تخاطبك، وكأنها أنزلت عليك. قد يكون مثل هذه الآية رسالة إلهية إذا قرأتها وتمعنت فيها بتفكر. كان دائما ما يتبادر مثل هذا التفكير لدي، لكن كنت، على الدوام، لا آخذه على محمل الجد. لكن في تلك اللحظة تحديدا، أثّر علي هذا الكلام بشكل مباشر. رددت في نفسي أنه يجب أن أطبق هذا الكلام بحذافيره، دام أن التأكيد أتى من شخص ثقافته الدينية متقدمة.
أحد الأيام، وتحديدا في الثلث الأخير من الليل، كنت عاكف على حل أحد الواجبات الدراسية. أذكر إني كنت أشغل الموسيقى - كعادتي السابقة الدائمة - أثناء جلوسي للعمل. تردد في نفسي أن استمع إلى سورة قرآنية، وأطبق الدرس الذي تعلمته مؤخرا. ولعله كان أحد أفضل قرارات حياتي.
… كل ما أذكره في تلك اللحظات المرعبة هو إني أجهشت ببكاء، عند آيه معينة تحمل رسالة واضحة جدا، استمر لدقائق بلا توقف، ورعب داخلي مع انقباض في القلب لم أعشه في حياتي استمر لنفس الفترة من الزمن، خررت بعدها ساجدا مجبرا بلا اختيار، وكأني (دمية) في يد أحدهم ولست متصرف بنفسي. في نفس الوقت، أذكر إني كنت أضع ملصقات على جدران السكن لشعار الجامعة التي أدرس فيها (الذي كان على شكل صليب) جهلا، أو لأقل قلّة حرص بالتعاليم الدينية، وأذكر أيضا إنني أزلتها تلقائيا بنفس شعور (الدمية) ذاته.
(تأدّبت) بعد هذا التنبيه الإلهي - والحمد لله على كرمه وفضله - والتزمت بعدها إلتزام مباشر. ومع الأيام رأيت تغيّر جذري وراحة نفسية، أشعر بها في قلبي. واستمريت فترة مؤقتة (تقريبا حوالي الأسبوعين) بشعور غريب وكأنه بأحدهم (يطهّر) ويصقل قلبي من الداخل، حرفيّا. ومما أتذكره أنني مررت بأيام أتتني فيها رؤى مختلفة، واختلافها عن ما كنت أراه في منامي قبل ذلك أن وقعها كان على القلب مباشرة، وأحس بها في صدري. أحد الرؤى كانت عجيبة، وكأنها تنبيه لخطأ تغافلت عنه في تلك الأيام، صححته بعد الرؤيا بشكل مباشر.
من ما تعلمته: أن العزلة، إذا، وفقط إذا، اقترنت بالارتباط الديني، تزيد وعي الانسان بشكل كبير. إذا وفق الله تعالى الشخص في خلوته، قد يختاره ويكشف له برهان الحياة والعبودية، بطريقة أو بأخرى، كما لو كان يراها، ستكون هي نقطة التحول في حياته، بل هي نقطة التحول الأكبر. لاحظ أن أغلب المفكرين والأشخاص الناجحين على مر العصور، دعني أركز على المجتمع الإسلامي على الأقل، يقتطعون - لو جزء بسيط جدا - من حياتهم في العزلة. سواء طوعا أو كرها، وعزلتهم كانت سبب أساسي في زيادة وعيهم، وبالتالي تأثيرهم. بالمقابل، العزلة، إذا لم تُقترن بالعبادة، قد تقذف بالشخص في مهبّ الريح، وهذا واضح في المجتمعات غير المؤمنة.
حسب دراسة علمية أطلعّت عليها، العبادة أو الصلاة خصوصا، قد تفسّر أنها نوع من التواصل الاجتماعي مع الخالق. العابد في خلوته، قد لا يحتج إلى التواصل الاجتماعي، لأنه يناجي ربه في تلك اللحظات، وهذا تفسير منطقي، لحد كبير.
لا أنكر إني (كافحت) بكل ما في هذه الكلمة من معنى، على محاولة الالتزام الديني التام بعد ذلك الموقف. كانت مقاومتي النفسية، تكبح جماحي بشكل أو بآخر. المقاومة قصدت بها ردة فعل الناس عموما، من التغييرات التي سأبذلها بهذا التغيير الداخلي، من نواحي كثيرة، على سبيل المثال: في المظهر الخارجي، السلوك، الأفكار، والأهداف في الحياة عموما. أستطيع أن أوصف للقاريء أني اختصرت مسيرة ٢٠ سنة في المجتمع السعودي - بشكل شخصي - على مدى ٧ شهور. كنت أتنقل من مرحلة الصحوة، إلى ما بعدها… ، وأسخر من نفسي كثيرا حينما أتأمل هذا التغيير السريع. فيوم أكون المتشدد جدا، ومرة أكون المنفتح الذي يتجاهل التعاليم الدينية لرغباته الشخصية،.. وهكذا. وكنت أتقلب ما بين حالة التشدد الرهيب إلى حالة الاتنكاس غير المسؤول.
الطريق الى الله طويل. مليء بالتضحيات. وأصعب الصعوبات التي واجهتها هي رد حقوق الخلق، وكسر الأنفه الذاتية بالاضطرار للاعتذار، الذي أحيانا يجب أن يكون على العلن. أستطيع أن أقول أني قضيت ليالي طويلة تتجاذبني أهوائي حتى أقنع نفسي شيئا فشيئا بضرورة الخضوع والامتثال للأوامر الإلهية قدر الاستطاعة. حتى لو لزم الأمر إلى إعادة النظر في كل علاقاتي الاجتماعية والتخلي عنها عند الضرورة. وأنه لا صواب في التغاضي عن الوقوع في بعض المحرمات من ما ألفوه الناس وأعتادوه هذه الأيام. فالإيمان يزيد وينقص والموضوع خطير وليس كما يعتقده الكثير.
من بعض الأمور التي صعبت علي، هو محاولة الهروب من الوقوع في المعصية بشتّى الوسائل. في كل وقت أرتكب فيه معصية مهما صغرت، أجرّ بعدها أذيال الخطيئة، وأوقات من عدم الرضا الداخلي. استسلمت بعدها للطبع البشري وأنه لا مناص من الأخطاء أبدا، والحل الوحيد لذلك هو (مسحها) بالحسنات، حينما تتأمل تحديدا في الفلسفة الدينية، تدرك أن الموضوع طبيعي. أذكر حديث للرسول ﷺ لثائر الشعر من أهل نجد. وكأنه ﷺ يعلم أنه لن يستطيع الابتعاد عن الوقوع في المعصية، حيث أنه واقع في الخطأ لا محالة، ولا سبيل له للنجاة الا أن يتطوع حتى يمسح خطيئاته بالحسنات.
حسب فهمي : من الطبيعي جدا أن الإيمان يجيء ويذهب، بحدود طبعا، والعاقل من عكف على تقوية إيمانه والتزايد في فعل الطاعات بدلا من الاستمرار في الأخطاء بلا رادع داخلي.
لذلك من أيامها، صرت أجنح إلى القراءة في السِيَر، وبعض من علماء الدين، وبعض من المتصوفين، وبشكل مكثّف. هذا الاطلاع الدوري لاحظت أنه يزيد من وعيي ويخوفني من العقاب، ويحّببني إلى الطاعة ويألفّني إليها. بالتالي صرت أكثر خضوعا للأوامر الإلهية، وأقوى على مواجهة أهوائي وأهواء من حولي، مما يصب في الأهم وهو زيادة الإيمان.
مؤمن أن كل شخص بداخله (متصوّف) صغير يستمتع بالعبودية ويستأنس بها، لكن أحيانا الفرد يجيّر هذه العبودية، ولو بمعانيها مثل الخضوع والتذلل، للخلق بدلا عن الخالق، والسبب الأساسي في ذلك هو ضعف إيمانه وتيهه. (قصدي بالصوفية هنا مفهومها الأساس، وليس المذاهب الصوفية المشهورة).
تأكدت بعد فترة - من خلال الآية التي توقفت عندها - قطعا أن السبب الأساسي وراء ذلك هو عمل عملته - لقي القبول - وكانت نيتي خالصة فيه ولله الحمد، وإن كنت لم أعلم ذلك ابتداء. ولعل الله كافئني بذلك وقذف في قلبي ذاك النور، الذي أتمنى أن أوفّق، لأبقيه متقدا، حتى يقبض الله هذه الروح التي تحدثكم.
الايمان عجلة تتحرك بقدر الأفعال الخيرة الذي تفعلها في حياتك. الدين يحفّز الشخص على العطاء، والمادة، أو القوة والشهرة، ليست (الهدف الأساس) بقدر ما يكون الهدف هو إفادة الناس وصنع التغيير. المادة - في حالة تحقيقك لهذا الهدف الأكبر - تأتيك لا محالة. أتدري ما المضحك المبكي؟ أن غير المؤمن لا يتعلّم ذلك، إلا في أواخر حياته، أو بمعنى آخر، بعد فوات الأوان. والأمثلة لا حصر لها (بيل قيتس على سبيل المثال). أتدري أيضا ما المضحك المبكي؟ كمية كبيرة من الناس لا تقتنع بهذه الفكرة، وتعتبرها من المثاليات التي لا تنطبق على حياتها، وتسيّر حياتها تماما للبحث عن أهداف ثانوية. الموضوع حساس جدا وقد يفقد الشخص فرص تأريخية في حياته بسبب أهداف وهمية.
شخصيا لا أدعي المثالية، وكل شخص فيه جانب خيّر وشرير، لكن العاقل - مجددا - من يكافح جانب الشرّ في شخصيته، أو يوظفه (بذكاء)، و(يسقي) إيمانه بفعل الخير، متى ما سنحت له الفرصة. وهذا بالضبط ما تحرّص عليه الشريعة.
حال التيه السابقة، تزامنت مع عجز عن فهم ظواهر بشرية كثيرة، كنت أعاني من فهمها وتحليلها منذ سنوات الطفولة، لمحدودية التجربة وصغر السن، ونوع من السذاجة - أستطيع أن أسميها - لجهلي وقلة ثقافتي الدينية التي لديها الجواب الشافي لمثل هذه الظواهر، مما جعلني أقع في أخطاء - خصوصا إجتماعية - كلفتني الكثير. ولعلها عقوبة من الله لتقصيري في حقه {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} - سورة المائدة، الآية ٤٩.
لا يخفى على عاقل الفرق بين الذكاء والحكمة. فبلغة أهل الحاسب: أستطيع أن أشبّه الذكاء بأنه أقرب ما يكون بجودة المعالج البشري (CPU)، بينما الحكمة هي اختيار ماهيّة البيانات المناسبة لمعالجتها وبالتالي إنتاج المعلومات. بلغة أخرى، الحكمة هي الجودة في اتخاذ القرارات حسب المعرفة المتاحة للشخص. بينما الذكاء هي كفاءة العقل البشري. قد يكون بين المفهومين تداخل ، لكن هذا تحليلي الشخصي للفرق بينهما.
من رأيي: أن التفوق الذي تجده في الأشخاص غير المؤمنين، ليس بحكمة خالصة في اتخاذ القرارات. بل بسبب عوامل متفرقة وكثيرة، أهمها النشء في بيئة معرفية مناسبة تماما، التطور والتراكم المعرفي عبر الزمن، فتجد مثل هؤلاء الأشخاص لديهم حصيلة معرفية ممتازة، مما يصنع قدرة على اتخاذ قرارات جيدة على الدوام.
لكن بالمقابل، الحكمة الربانية مختلفة، وهي حكمة فطرية ولن تجدها عند كل البشر. وأعتقد يدخل فيها مفهوم الحظ والتوفيق، أو حتى تأثير ما يسمى ب“العقل الباطن”، الذي قد يفسّر عند البعض، بالإلهام الرباني. بالإضافة إلى ذلك، المؤمن والمثقف دينيا تجد لديه رؤية فطنة، ومعرفة بطبع البشر وأهدافهم، مما يسهل عليه أن يتوقّع ويصيب التوقع; لأن ظنونه مبنية على حقائق “ربانية” بدلا عن التجارب البشرية. هذا واضح في تاريخ العرب المسلمين خصوصا. ( أنصح بكتاب عبقرية عمر للعقاد).
مثال على الحكمة الربانية في اتخاذ القرارات:
كثيرون يقلدون ويفتخرون بما يفعله ستيف جوبز أو غاندي مثلا في (زهدهم) من ناحية المظهر وطريقة اللبس، الذي يكون بسيط جدا، وأحيانا يصل إلى أن يكون رثّ. هذا توجّه مخالف للتوجيه الديني. والمتدين الزاهد هو فقط من يفعل ذلك. الله جميل يحب الجمال، والنبي ﷺ أمر أحد الصحابة أن يحسن من مظهره ويري الناس أثر نعمة الله عليه، طبعاً مع تجنب الإسراف المبالغ فيه. لو تلحظ أن هذا التوجيه الديني هو المقبول عند البشر عموما، لكن قد يخفى، أو يتم تجاهله بطريقة أو بأخرى، من البعض.
على الأقل، وفي أسوأ الأحوال، إن لم يطمع الشخص بما عند الله بالآخرة، ويخاف من عذابه وعقابه، ولمن هدفه الحياة والنجاح في هذه الدنيا، فإن الهدي الربّاني هو نور الطريق لنجاح مُقنِع ومثالي، لا يشوبه (شائبة).
من وصلته رسالة الإسلام أثناء تربيته في الطفولة، لا يدرك أنه محظوظ جدا إلا حينما يتأمل ويسافر ويقرأ في تجارب الآخرين ممن يبحثون عن الحقيقة. الكثيرون يقضون عقود من حياتهم، بل جل حياتهم، للبحث عن الحقيقة، وليس الكلّ يوفقون لها، وهذا بحكمة الخالق عز وجل. قد يكون السبب بسيط وهو اعتمادهم على عقولهم في التحليل، وأهوائهم الشخصية قد تضعف حكمهم الشخصي. وأحيانا قد لا يُلام على ذلك حيث أن هذه هي تربيته التي تربّى عليها، ومن الصعب نزعها، إلا أن يفتح الله عليه ويشعر بالإيمان وهو يلامس قلبه. بالمقابل التربية الإسلامية علّمتك أن العقل البشري لن يستطيع الإلمام - كلّ الإلمام - حينما يصل الموضوع للنقاش في أمور غيبية أو عقائدية. فالنص القرآني، ومن ثم الصحيح - مما اتفق عليه المسلمون عبر التاريخ الإسلامي- من الأثر النبوي هو كل ما يجب أن تعتمد عليه لتسيير جميع أمور حياتك، ومن ثم تمارس قدراتك البشرية في التحليل والاجتهاد لإكمال المسير. الإنسان ضعيف بطبعه، بنصّ القرآن، مهما بلغ من المقدار المعرفي، والقوة العقلية، النفسية أو الجسدية. تأتيه زلات وهفوات لا يستطيع أمامها إلا أن يسقط ويتهاوى إلى الحظيظ، ولا سبيل له في النجاة إلا اتبّاع النصوص المقدسة.
قد أكون شخصيا محظوظ جدا أن الجواب و"الإنقاذ" أتاني من رب العالمين بشكل مباشر، وقد لا ألوم البعض في الاستمرار في إلقاء التساؤلات - على الأقل في ذاته - من الفينة للأخرى، خاصة لمن يشاركني ومر أو يمر بنفس الظروف (مثلا: متخصص في علوم الحاسب أو العلوم الطبيعية - الذي قد يكون الجانب الروحي فيها “منسلخ" - مما قد يؤثر على الشخص ضعيف الإيمان عند التعمق فيها). البشر مأمورون بالقراءة والتفكر، بنصّ القرآن. المهم هو عدم مشاركة مثل هذه التساؤلات العقائدية مع الآخرين بشكل سلبي والقدح في العقيدة، فليس كل الناس قد تقع في قلبه مثل هذه التساؤلات. بل اقترح عليك أنك تبحث عن الجواب عن تساؤلاتك بنفسك، من خلال تعزيز إيمانك ممن تعتقد بجدراته، وهو يشاركك في الإيمان والعقيدة، بدلا عن قراءة واطلاع لتجارب بشر مختلفين في العقائد، وأصحاب تجربة إنسانية مختلفة جدا، من الصعب على العقل استيعابها بشكل بديهي، وقد تؤثر فيك سلبا لا إيجابا. وتذكر أنك في النهاية بشر: تتأثر كثيرا بمن تصاحب، وما تقرأ، فكن حذر جدا في هذا الجانب.
المؤسف أن من تستفحل عنده هذه الشكوك، يرى لحال الكثير من رجال الدين ممن يتصفّون بـ”الملتزمين” اليوم، والحال المؤسف لبضعهم، وجهله في العلوم غير الدينية مع الخوض فيها، مما قد يسبب له تناقض أكثر، ويصب زيتا على نار.
عندي تشبيه في حال الإسلام اليوم دائما يتردد في صدري، وهو تشبيه مستنبط من ثقافتي الحاسوبية (قد لا يتضح لغير المتخصص)، قد يبدو مثير للسخرية لكن أدعوك للتأمل فيه قليلا:
الإسلام أستطيع تشبيهه بنظام التشغيل يونيكس (Unix) صدرت منه نسخ و(توزيعات) زادت عليه ونقصت، وبعضها حاد به عن قوته الأصليه و(عاث) في نقاءه وصفاءه. من ضمن النسخ والتوزيعات العديدة: النسخة التي تعتمد على نصاعة المظاهر و الواجهات (Interfaces) بشكل أساسي، لكنها من الداخل للأسف مليئة بالأخطاء (bugs).
من يريد أن يعرف الإسلام (النقي)، ليعود إلى القرآن العظيم ومن ثم الصحيح من الأثر النبوي - مما اتفق عليه العلماء عبر التاريخ الإسلامي- ويجد ضالّته هناك.
إنني متأكد أن ما حصل لي حصل للكثيرين، تحت مسمى (التوبة)، بغض النظر عن القالب الأدبي الذي وضعته تحتها. التوبة ببساطة هي صحوة الضمير بتوفيق الله وتنبيهه لعبده، لكنها تمر عند الكثير مرور الكرام ويتلاشى أثرها مع مرور الزمن، وعند البعض الآخر ينقلب فيها لالتزام ديني مبالغ فيه يفوق طاقته ((و)) يخالف فطرته البشريه ليتنكس بعدها لتيه أسوأ من تيهه الأول.
عسى الله أن يثبتنا، وقاريء هذا السطور، ويستر علينا، وقاريء هذه السطور، آمين. لا أتذكر في النهاية إلا حديث الرسول ﷺ: "اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت، و الموت خيره له من الفتنة، و يكره قلة المال، و قلة المال أقل للحساب.” - صحيح الجامع. قد تأتي من الفتن ما تذهب دين الشخص، من فتنة المال، وفتنة القوة وحب التسلط على الآخرين، أو فتنة الشهرة وحب الأضواء، … إلخ. والموضوع ليس له حد. ومن يستعرض تجارب الآخرين، خصوصا من من يُعتقدون أنهم رجال دين ويعيشون بيننا الآن، يدرك خطورة الموضوع. المؤسف أن الفتن قد تتزايد على الإنسان كلما يتقدم في العمر، وتنضج تجربته الإنسانية، وتزيده قوه وتأثير، مما قد يزيد طمعه الذي لا يتوقف.
“اللّهم أنّي قد بلّغت. اللّهم فاشهد”.
(1) الصورة من حساب osman turhan عبر تويتر https://twitter.com/osman_turhan/media