هذه النصائح قد تبدو (ثقيلة) للمتلقي لها للوهلة الأولى. لكنها خلاصة، سمّها (صريحة)، لتجربة شخصية، محدودة وقصيرة، لطالب دراسات عليا سنحت له فرصة أن يقيم في الولايات الأمريكية، ويحتك بمجتمع أمريكي-دولي "قوي" نسبياً. المقالة قصدت بها رفع الوعي في أمور قد يجهلها الكثير ممن يجهز للغربة والابتعاث للمرة الأولى (للمبتعثين السعوديين أو الخليجيين خصوصا) ويقل النقاش فيها لحساسيتها.
النصائح التالية قد تكون مفيدة لمن هو مقبل على تجربة أكاديمية أو عمليّّة - في الولايات الأمريكية تحديدا- أكثر من طالب اللغة; لأن الاحتكاك بمثل هالمجتمع الجدّي لا يحصل غالبا لطالب اللغة.
مهما قرأت وكنت مطّلع، تجربة الغربة والابتعاد عن الوطن، لمن لم يجربها مسبقا، تجربة إنسانية مختلفة، ولن يستطيع الشخص تصورها حتى يعيشها فعليا. وإذا استثمرت على وجه إيجابي، فقد تأثر في الشخص - في قسوتها وحرارتها - تأثير ممتاز وتشعل حسّه الديني، الوطني، أو حتى العاطفي. لذلك كن على استعداد لتعيش تغيير - قد يكون جذري - في العادات والسلوك.
ستمر بك أيام في غاية الروعة. خصوصا أن الولايات الأمريكية - خاصة في المدن الرئيسية - مربوطة على الدوام بالحضارة المادية، وستعيشها هناك كما لو تشاهدها في أفلام السينما. بالمقابل من ناحية أخرى، ستمر بك أيام، (تطحنك) الغربة فيها طحن، سوف تشعر بالخواء الروحي، والسبب الأساسي في ذلك هو البعد عن الوطن وأهله. ناهيك عن أنه، خصوصا في أمريكا، يزداد هذا الخواء الروحي مع مرور الوقت ازدياد قاسي; “مجتمع” هو معنى لا يوجد في الحياة العملية الأمريكية على الإطلاق. لذلك نصيحتي الأساس للتعامل مع هذا الموضوع ومكافحته، هو “التزود” الروحي، بالتقوى الدينية، إذا وفقك الله لذلك، فلها تأثير إيجابي على راحتك النفسية {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} الآية ١٩٧- سورة البقرة. الحل الآخر، والذي يأتي في مرتبة أقل، هو محاولة العيش في جو عائلي (حقيقي) متى ما سنحت الفرصة.
اعتقد هذا الخيار مناسب أكثر للشباب الذكور الذين يعتقدون أنهم جاهزين (لغير المتزوج طبعا)، ولو مبدئيا لمثل هذا التجربة المختلفة، خصوصا للشباب السعودي. ورسالتي لمن ساوره الشك أو الهيبة من مثل هذه التجربة المختلفة: جرب على الأقل أن تعيش بشكل مستقل. استغل مثل هذه الفرصة لإعادة اكتشاف نفسك بعيدا عن ضجيج الأهل، الأصحاب أو المعارف. طبقا لأحد الاحصائيات، تقريبا ربع سكان أمريكا يعيشون لوحدهم، وفي بعض المناطق مثل مانهاتن في نيويورك، النسبة تصل إلى النصف (1) (لاحظ أنهم سكان وليسوا مقيمين مؤقتا)، لا تعتقد أنهم نوعيات من البشر خارقة أو مختلفة.
السكن بمفردك يعلمك أشياء لا حصر لها، ويكشف أمور حساسة قد تكون غافل عنها في حياتك، ومع الوقت ستلاحظ أنك تحل مشاكل شخصية جذرية كنت تتغافل عنها بحجة أنك مشغول، أهمها كيفية تنظيم علاقاتك مع الغير، ومعرفة حقيقتها، والوقت ومعرفة أخطائك في تنظيمه وتصحيحها بشكل تدريجي حتى تصل للمعادلة الأفضل التي ممكن بها أن تسيّر حياتك، وتفكّ شفرة "الإنتاجية" الخاصة بك. توجد سلبيات وصعوبات كبيرة لا شك، لكن في رأيي أن الإيجابيات تفوق السلبيات، خصوصا إذا كان الموضوع مؤقت، لفترة تم تحديدها بشكل مسبق.
الفرد في المجتمع الأمريكي غالبا متفوق في التسويق لنفسه اجتماعيا، والزائر منذ الوهلة الأولى سينبهر جدا بهذه النقطة تحديدا، سيلاحظها في الحرص الزائد على جمال المظهر، النظافة الخارجية، الترتيب الفائق جدا لمكان العمل، إظهار الثقة المفرطة، طريقة الحديث، لغة الجسد .. إلخ. بحسب دراسة تحليلة تأريخية(2)، التسويق الاجتماعي للذات، الجودة الخارجية وإهمال الجانب الذاتي أو الروحي خصوصا هو جزء متأصل في الثقافة الأمريكية الحديثة.
الشعب الأمريكي (وهذا قد ينطبق بنسبة معقولة على من يعيش أو قرر العيش في أمريكا) غالبا شعب مادّي بحت، في خارج نطاق العائلة والأصدقاء على الأقل. وهذا غير ملحوظ للشخص الزائر، بل لمن احتّك بالمجتمع لفترة ليست بالقصيرة. بالتالي معنى الأخلاق أو الأمانة غير معترف به عموما، فالقانون هو كل ما يجب أن تعتمد عليه. فلابد من أن الشخص يكون حذر وجاد في جميع تعاملاته الرسمية. كثير ممن يعيشون في أمريكا يعاملون كل موقف اجتماعي حرج أمامهم على أنها (معركة) معنوية، يجب أن ينتصر فيها متى ما سنحت الفرصة.
المجتمع في أمريكا (غالبا) مجتمع متعدد الثقافات والأجناس، ومختلف في العقائد والأديان. فبالتالي الحزازيات بين البشر موجودة; لا أتوقع أن تسلم (والموضوع يختلف من ولاية لأخرى) من الأذى المعنوي سواء لجنسيتك، لونك، عرقك أو حتى ديانتك. (والأخيرة نادرة جدا لأن الموضوع حساس).
فلابد للشخص أن يكون عزيزا، محترما لنفسه، وبالتالي محترم للآخرين (لنا في الهدي الإسلامي مثال: فعلى سبيل المثال: في مسألة أنه لا يبدأ بإلقاء التحية لغير المسلم إلا لحاجة ملحة، وهذه بالفعل قيمة مهمة، تعزز أهمية احترام الشخص لنفسه). النقطة الأهم هو أن لا تخالف القانون، ودع الخلق للخالق. بعيدا عن شعارات هوليوود، عنصرية العرق الأبيض لا تموت.
للأسف بعض من يعود من تجربة الابتعاث - للدراسات العليا خصوصا- ينطبق عليه المثل: "ما تكبّر أحد إلا من ذلة يجدها في نفسه” تجده متكبر أو متغطرس. والسبب الأول باعتقادي أنه عانى من مثل هذا الأذى، وللأسف تجده يمارسه على غيره ليشفي غليله.
الكثيرين من المغتربين، السعوديين أو الخليجيين خصوصا، يجتنبون الاختلاط بالآخرين بشكل كلي، لأسباب دينية، اجتماعية، أو أخلاقية في الغالب. هذا توجّه مفهوم لكن اقتراحي الشخصي ان الاحتكاك بالآخرين مفيد جدا، وأقصد هنا بالمجالسة والاختلاط المتوازن متى ما سنحت الفرصة، وليس الانجراف في علاقات مستديمة قد تكون ممتعة ولكنها قد تضر أكثر من أن تنفع. أنت أعلم بنفسك وقدراتك فضع حدودك بنفسك.
أحد الأخطاء التي يقع فيها المبتعثين السعوديين خصوصا، هو حصر أنفسهم في مجتمع سعودي صغير لا يخرجون منه إطلاقا. وهذا باعتقادي خطأ جسيم.
على سبيل المثال، قد يكون من الملائم جدا تجربة السكن مع عائلة أمريكية (عائلة وليس أشخاص)، لفترة مؤقتة.
أنت في مكان ستعيش فيه وقت مؤقت (نقول إن شاء الله). فلا تخش أن تمارس عادات لم تعتد عليها، وحاول تجرب أي شي كنت تمني النفس بفعله ولكن تخشاه في مجتمع وطنك! جرب رياضات جديدة (جرب الدراجة مثلا في التنقل اليومي)، انضم إلى أعمال تعود عليك بالنفع أو بالأجر وغير معهودة لديك (تقديم دروس للغة العربية مثلا - بيع وشراء إلكتروني) … إلخ. الجميل في الموضوع أنك في مكان ستتركه وتترك أهله بعد فترة، وهذا دافع أقوى لكسر الخوف من المجتمع أو ردة فعل الآخرين، لكن المقصد هنا بالطبع في حدود الأخلاق والدين.
دائما تسائل وابحث عن مغزى ما تفعله قدر الإمكان (وأكرر قدر الإمكان لأن الموضوع أحيانا قد يكون خارج نطاق معرفتك أو سيطرتك). كثير من الأبحاث والأعمال قد لا يتضح لك مغزاها لأنك مجرد أنك تتبع أوامر مشرفك الأكاديمي أو رئيسك في العمل. معرفة مغزى عملك مهم لتحفيز نفسك، في حال وافق الموضوع اهتماماتك وأهدافك، أو حتى سحب نفسك مبكرا. لأن الموضوع بالفعل يحتاج مراجعة.
أهداف البشر، خصوصا في دولة مثل الولايات الأمريكية، وقيمهم في الحياة مختلفة جدا. أذكر [مثال خطير][3] ذكره المفكر عبدالوهاب المسيري رحمه الله في إحدى لقاءاته، وأنه كيف أن الذي اخترع القنبلة الذرية أمضى حياته وهو يبحث في علم المادة ولم يعلم بخطورة ما اخترعه أو اكتشفه إلا بعد فوات الأوان. وظل يكافح ما تبقى من حياته في محاولة (ردم) ما فعله بعد ما أدرك خطورته! هذا بالطبع مثال متقدم ومبالغ فيه، لكنه تقريبي قد يوضح لك أن الموضوع مهم فعلا وينبغي أن يعرف الشخص ماذا يفعل تحديدا، ولصالح من، وما مكاسبه الشخصية من ذلك.
وأخيرا لمن هو مقبل على مثل هذه التجربة: لا تنسى أن تتذكر هذه الوصيّة لباولو كويلو: “ثلاث أشياء قد تغيّر حياتك: الأحلام، المعاناة، والحب”.